فصل: تفسير الآيات (183- 184):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (183- 184):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
قد تقدّم معنى: {كتب} ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال: للصمت: صوم؛ لأنه إمساك، عن الكلام، ومنه: {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26] أي: إمساكاً عن الكلام، ومنه قول النابغة:
خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غَيْرٌ صَائِمَةٍ ** تَحْتَ العَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجمَا

أي: خيل ممسكة عن الجري، والحركة. وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وقوله: {كَمَا كُتِبَ} أي: صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال.
وقال بعض النحاة: إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، وهو ضعيف؛ لأن الصيام معرّف باللام، والضمير المستتر في قوله: {كَمَا كُتِبَ} راجع إلى (ما). واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو، فقيل: هو قدر الصوم، ووقته، فإن الله كتب على اليهود، والنصارى صوم رمضان، فغيروا، وقيل: هو: الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام. وقيل: هو الصفة. أي: ترك الأكل، والشرب، ونحوهما في وقت، فعلى الأوّل معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم، وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم، وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بالمحافظة عليها، وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه جُنَّة، وأنه وجاء.
وقوله: {أَيَّامًا} منتصب على أنه مفعول ثان لقوله: {كتب} قاله الفراء. وقيل إنه منتصب على أنه ظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله: {معدودات} أي: معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} قيل: للمريض حالتان: إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرّر، ومشقة كان رخصتة. وبهذا قال الجمهور. وقوله: {على سَفَرٍ} اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار، فقيل: مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور.
وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها. والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر، فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض، فهو الذي يباح عنده الفطر.
وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة.
واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله: {فَعِدَّةٌ} أي: فعليه عدّة، أو فالحكم عدّة، أو فالواجب عدّة، والعدّة فعلة من العدد، وهو بمعنى. المعدود. وقوله: {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال سيبويه: ولم ينصرف؛ لأنه معدول به عن الآخر؛ لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، وقال الكسائي: هو معدول به عن آخر، وقيل: إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} قراءة الجمهور بكسر الطاء، وسكون الياء، وأصله: يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال، وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة، وتشديد الواو، أي: يكلفونه، وروى ابن الأنباري، عن ابن عباس: {يطيقونه} بفتح الياء، وتشديد الطاء، والياء مفتوحتين بمعنى: يطيقونه.
وروي عن عائشة، وابن عباس، وعمرو ابن دينار، وطاوس أنهم قرءوا {يطيقونه} بفتح الياء، وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة، والشام: {فِدْيَةٌ طَعَامُ} مضافاً. وقرءوا أيضاً: {مساكين} وقرأ ابن عباس: {طَعَامُ مساكين} وهي قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة، أم منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شقّ عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم، وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور.
وروي عن بعض أهل العلم، أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ، والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، أي: يكلفونه كما مرّ. والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وقد اختلفوا في مقدار الفدية؛ فقيل: كل يوم صاع من غير البرّ، ونصف صاع منه، وقيل: مدّ فقط.
وقوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} قال ابن شهاب: معناه: من أراد الإطعام مع الصوم.
وقال مجاهد: معناه: من زاد في الإطعام على المدّ. وقيل: من أطعم مع المسكين مسكيناً آخر. وقرأ عيسى بن عمر، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي: {يطوّع} مشدّداً مع جزم الفعل على معنى يتطوّع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل معناه: وأن تصوموا في السفر، والمرض غير الشاق.
وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن معاذ بن جبل؛ قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فذكر أحوال الصلاة ثم قال: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام، وأنزل عليه: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} إلى قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم، ورخص فيه للمريض، والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، ثم ذكر تمام الحديث.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} قال: يعني بذلك أهل الكتاب.
وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، عن دغفل بن حنظلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم، فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدنّ عشراً، ثم كان آخر، فأكل لحماً، فأوجع فوه، فقال: لئن شفاه الله ليزيدنّ سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر، فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل، فصارت خمسين يوماً».
وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال: تتقون من الطعام، والشراب، والنساء مثل ما اتقوا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم».
وأخرج البخاري، ومسلم عن عائشة قالت: كان عاشوراء صياماً، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر.
وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال: إن قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} قد نسخت.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه نحو ذلك، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} الآية.
وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه.
وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من شاء صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ}.
وأخرج البخاري، عن ابن أبي ليلى قال: حدّثنا أصحاب محمد، فذكر نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر، ويطعم مكان كل يوم مسكيناً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والدارقطني، والبيهقي؛ أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته، فصنع جَفْنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً، فأطعمهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل، أو مرضعة: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام، عليك الطعام لا قضاء عليك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني، عن ابن عمر؛ أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان، وهي حامل، قال: تفطر، وتطعم كل يوم مسكيناً، وقد روى نحو هذا، عن جماعة من التابعين.
وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة في قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قال: أطعم مسكينين.
وأخرج عبد بن حميد، عن طاوس في قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قال: إطعام مساكين.
وأخرج ابن جرير، عن ابن شهاب في قوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: أن الصوم خير لكم من الفدية.
وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدّاً.

.تفسير الآية رقم (185):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
{رَمَضَانَ} مأخوذ من رمض الصائم يرمض: إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء ممدود: شدّة الحرّ، ومنه الحديث الثابت في الصحيح: «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي: أحرقت الرمضاء أجوافها. قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات، وأرمضاء يقال: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ، فسمي بذلك، وقيل: إنما سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة.
وقال الماوردي: إن اسمه في الجاهلية ناتق، وأنشد المفضل:
وفي ناتِقٍ أجْلَت لَدى حَوْمَةِ الوَغَى ** وَوَلَّتْ على الأدبار فُرسانُ خَثْعَما

وإنما سموه بذلك؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم، و{شهر} مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره: {الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، ويجوز أن يكون بدلاً من الصيام المذكور في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}. وقرأ مجاهد، وشهر بن حوشب بنصب الشهر، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، وهو منتصب بتقدير: الزموا أو صوموا. قال الكسائي، والفراء: إنه منصوب بتقدير فعل {كتب عليكم الصيام} {وأن تصوموا} وأنكر ذلك النحاس، وقال: إنه منصوب على الإغراء.
وقال الأخفش: إنه نصب على الظرف، ومنع الصرف للألف والنون الزائدتين.
قوله: {أُنزِلَ فِيهِ القرآن} قيل: أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً. وقيل: أنزل فيه أوّله، وقيل: أنزل في شأنه القرآن. وهذه الآية أعم من قوله تعالى: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]. وقوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] يعني: ليلة القدر. والقرآن اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء كالمشروب سمي شراباً، والمكتوب سمي كتاباً، وقيل: هو مصدر قرأ يقرأ، ومنه قول الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

أي: قراءة، ومنه قوله تعالى: {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر. وقوله: {هُدىً لّلنَّاسِ} منتصب على الحال، أي: هادياً لهم. وقوله: {وبينات مِّنَ الهدى} من عطف الخاص على العام، إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر؛ لأن القرآن يشمل محكمه، ومتشابهه، والبينات تختص بالحكم منه. والفرقان: ما فرق بين الحق، والباطل: أي: فصل. قوله: {مَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي: حضر، ولم يكن في سفر بل كان مقيماً، والشهر منتصب على أنه ظرف، ولا يصح أن يكون مفعولاً به. قال جماعة من السلف، والخلف: إن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك، أو أقام استدلالاً بهذه الآية.
وقال الجمهور: إنه إذا سافر أفطر، لأن معنى الآية: إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره لا إذا حضر بعضه، وسافر، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحق، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة.
وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، فيفطر. وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قد تقدّم تفسيره.
وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير، وينهى عن التعسير كقوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» وهو في الصحيح. واليسر السهل الذي لا عسر فيه. وقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} الظاهر أنه معطوف على قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} أي: يريد بكم اليسر، ويريد إكمالكم للعدّة، وتكبيركم، وقيل: إنه متعلق بمحذوف تقديره: رخص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة.
وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا: والتقدير يريد؛ لأن تكملوا العدّة، ومثله قول كثير بن صخر:
أريدُ لأنسى ذِكُرَها فَكَأنَّما ** تَمَثَّل ليِ لَيْلا بِكُلِ سَبِيل

وذهب الكوفيون إلى الثاني، وقيل: الواو مقحمة، وقيل: إن هذه اللام لام الأمر، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها.
وقال في الكشاف: إن قوله: {وَأَحْصُواْ العدة} علة للأمر بمراعاة العدّة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علم من كيفية القضاء، والخروج عن عهدة الفطر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص، والتيسير، والمراد بالتكبير هنا: هو قول القائل: الله أكبر. قال الجمهور ومعناه: الحضّ على التكبير في آخر رمضان.
وقد وقع الخلاف في وقته، فروى عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر، وقيل: إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة، وقيل: إلى خروج الإمام، وقيل: هو التكبير يوم الفطر. قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى، ولا يكبر في الفطر. وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد تقدّم تفسيره.
وقد أخرج أبو حاتم، وأبو الشيخ، وابن عديّ، والبيهقي في سننه، عن أبي هريرة مرفوعاً، وموقوفاً: «لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان» وقد ثبت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» وثبت عنه أنه قال: «من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه».
وثبت عنه أنه قال: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة» وقال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة» وهذا كله في الصحيح. وثبت، عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول: «رمضان» بدون ذكر الشهر.
وأخرج ابن مردويه: والأصبهاني في الترغيب: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سمي رمضان؛ لأن رمضان يرمض الذنوب».
وأخرجا أيضاً، عن عائشة مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه.
وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة،
وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».
وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عن جابر مثله، لكنه قال: «وأنزل الزبور الاثني عشر» وزاد: «وأنزل التوراة لست خلون من رمضان، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان».
وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن.
وأخرج ابن جرير، ومحمد بن نصر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء، والصفات عن مقسمٍ؛ قال: سأل عطيةُ بنُ الأسود ابنَ عباس فقال: إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن}. وقوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقوله: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] فقال ابن عباس: إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام.
وأخرج محمد بن نصر، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي، والضياء في المختارة، عن ابن عباس؛ قال: نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان، فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلاً.
وأخرج ابن جرير، عنه أنه قال: «ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور».
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {هُدىً للناس} قال: يهتدون به {وبينات مِّنَ الهدى} قال: فيه الحلال، والحرام، والحدود.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {فَمَن شَهِدَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: هو إهلاله بالدار.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عليّ قال: من أدرك رمضان، وهو مقيم، ثم سافر، فقد لزمه الصوم؛ لأن الله يقول: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن عمر نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} قال: اليسر الافطار في السفر، والعسر: الصوم في السفر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} قال: عدّة شهر رمضان.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك: أنه قال: عدة ما أفطر المريض في السفر.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فأكملوا العدّة ثلاثين يوماً».
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: حقّ على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأن الله يقول: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، عن ابن مسعود أنه كان يكبر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في سننه عن ابن عباس، أنه كان يكبر: الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيراً، الله أكبر، ولله الحمد وأجلّ، الله أكبر على ما هدانا.